الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
أخرج حميد بن زنجويه عن بعض الصحابة رضي الله تعالى عنه أنه ذكر العلم بوقت الكسوف قبل الظهور فأنكر عليه فقال: إنما الغيب خمس وتلا هذه الآية وما عدا ذلك غيب يعلمه قوم ويجهله قوم، وفي بعض الأخبار ما يدل على أن علم هذه الخمس لم يؤت للنبي صلى الله عليه وسلم ويلزمه أنه لم يؤت لغيره عليه الصلاة والسلام من باب أولى.أخرج أحمد والطبراني عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أوتيت مفاتيح كل شيء إلا الخمس {إنَّ الله عندَهُ علْمُ الساعة} الآية» وأخرج أحمد وأبو يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه عن ابن مسعود قال: أوتي نبيكم صلى الله عليه وسلم مفاتيح كل شيء غير الخمس {إنَّ الله عندَهُ علْمُ الساعة} الآية.وأخرج ابن مردويه عن علي كرم الله تعالى وجهه قال: لم يغم على نبيكم صلى الله عليه وسلم إلا الخمس من سرائر الغيب هذه الآية في آخر لقمان إن الله عنده علم الساعة إلى آخر السورة، وأخرج سعيد بن منصور وأحمد والبخاري في الأدب عن ربعي بن حراش قال: حدثني رجل من بني عامر أنه قال: يا رسول الله هل بقي من العلم شيء لا تعلمه؟ فقال عليه الصلاة والسلام: لقد علمني الله تعالى خيرًا وإن من العلم ما لا يعلمه إلا الله تعالى الخمس إن الله عنده علم الساعة الآية، وصرح بعضهم باستئثار الله تعالى بهن، أخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن قتادة أن قال في الآية: خمس من الغيب استأثر الله تعالى بهن فلم يطلع عليهن ملكًا مقربًا ولا نبيًا مرسلًا إن الله عنده علم الساعة ولا يدري أحد من الناس متى تقوم الساعة في أي سنة ولا في أي شهر أليلًا أم نهارًا وينزل الغيث فلا يعلم أحد متى ينزل الغيث أليلًا أم نهارًا ويعلم ما في الأرحام فلا يعلم أحد ما في الأرحام أذكرًا أم أنثى أحمر أو أسود ولا تدري نفس ماذا تكسب غدًا أخيرًا أم شرًا وما تدري بأي أرض تموت ليس أحد من الناس يدري أين مضجعه من الأرض أفي بحر أم في بر في سهل أم في جبل، والذي ينبغي أن يعلم أن كل غيب لا يعلمه إلا الله عز وجل وليس المغيبات محصورة بهذه الخمس وإنما خصت بالذكر لوقوع السؤال عنها أو لأنها كثيرًا ما تشتاق النفوس إلى العلم بها، وقال القسطلاني: ذكر صلى الله عليه وسلم خمسًا وإن كان الغيب لا يتناهى لأن العدد لا ينفي زائدًا عليه ولأن هذه الخمسة هي التي كانوا يدعون علمها انتهى، وفي التعليل الأخير نظر لا يخفى وأنه يجوز أن يطلع الله تعالى بعض أصفيائه على إحدى هذه الخمس ويرزقه عز وجل العلم بذلك في الجملة وعلمها الخاص به جل وعلا ما كان على وجه الإحاطة والشمول لأحوال كل منها وتفصيله على الوجه الأتم، وفي شرح المناوي الكبير للجامع الصغير في الكلام على حديث بريدة السابق خمس لا يعلمهن إلا الله على وجه الاحاطة والشمول كليًا وجزئيًا فلا ينافيه اطلاع الله تعالى بعض خواصه على بعض المغيبات حتى من هذه الخمس لأنها جزئيات معدودة، وإنكار المعتزلة لذلك مكابرة انتهى، ويعلم مما ذكرنا وجه الجمع بين الأخبار الدالة على استئثار الله تعالى بعلم ذلك وبين ما يدل على خلافه كبعض إخباراته عليه الصلاة والسلام بالمغيبات التي هي من هذا القبيل يعلم ذلك من راجع نحو الشفاء والمواهب اللدنية مما ذكر فيه معجزاته صلى الله عليه وسلم وأخباره عليه الصلاة والسلام بالمغيبات، وذكر القسطلاني أنه عز وجل إذا أمر بالغيث وسوقه إلى ما شاء من الأماكن علمته الملائكة الموكلون به ومن شاء سبحانه من خلقه عز وجل، وكذا إذاأراد تبارك وتعالى خلق شخص في رحم يعلم سبحانه الملك الموكل بالرحم بما يريد جل وعلا كما يدل عليه ما أخرجه البخاري عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله تعالى وكل بالرحم ملكًا يقول: يا رب نطفة يا رب علقة يا رب مضغة فإذا أراد الله تعالى أن يقضي خلقه قال: أذكر أم أنثى شقي أم سعيد فما الرزق والأجل؟ فيكتب في بطن أمه فحينئذ يعلم بذلك الملك ومن شاء الله تعالى من خلقه عز وجل» وهذا لا ينافي الاختصاص والاستئثار بعلم المذكورات بناء على ما سمعت منا من أن المراد بالعلم الذي استأثر سبحانه به العلم الكامل بأحوال كل على التفصيل فما يعلم به الملك ويطلع عليه بعض الخواص يجوز أن يكون دون ذلك العلم بل هو كذلك في الواقع بلا شبهة، وقد يقال فيما يحصل للأولياء من العلم بشيء مما ذكر إنه ليس بعلم يقيني قال: على القاري في شرح الشفا: الأولياء وإن كان قد ينكشف لهم بعض الأشياء لكن علمهم لا يكون يقينيًا والهامهم لا يفيد إلا أمرًا ظنيًا ومثل هذا عندي بل هو دونه بمراحل علم النجومي ونحوه بواسطة أمارات عنده بنزول الغيث وذكورة الحمل أو أنوثته أو نحو ذلك ولا أرى كفر من يدعي مثل هذا العلم فإنه ظن عن أمر عادي، وقد نقل العسقلاني في فتح الباري عن القرطبي أنه قال: من ادعى علم شيء من الخمس غير مسنده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كان كاذبًا في دعواه وأما ظن الغيث فقد يجوز من المنجم وغيره إذا كان عن أمر عادي وليس ذلك بعلم، وعليه فقول القسطلاني من ادعى علم شيء منها فقد كفر بالقرآن العظيم ينبغي أن يحمل العلم فيه على نحو العلم الذي استأثر الله تعالى به دون مطلق العلم الشامل للظن وما يشبهه، وبعد هذا كله إن أمر الساعة أخفى الأمور المذكورة وإن ما أطلع الله تعالى عليه نبيه صلى الله عليه وسلم من وقت قيامها في غاية الإجمال وإن كان أتم من علم غيره من البشر صلى الله عليه وسلم.وقوله عليه الصلاة والسلام: «بعثت أنا والساعة كهاتين» لا يدل على أكثر من العلم الإجمالي بوقتها ولا أظن أن خواص الملائكة عليهم السلام أعلم منه صلى الله عليه وسلم بذلك، ويؤيد ظني ما رواه الحميدي في نوادره بالسند عن الشعبي قال: سأل عيسى ابن مريم جبريل عليهما السلام عن الساعة فانتفض بأجنحته، وقال: ما المسؤول بأعلم من السائل، والمراد التساوي في العلم بأن الله تعالى استأثر بعلمها على الوجه الأكمل ويرشد إلى العلم الإجمالي بها ذكر أشراطها كما لا يخفى، ويجوز أن يكون الله تعالى قد أطلع حبيبه عليه الصلاة والسلام على وقت قيامها على وجه كامل لكن لا على وجه يحاكي علمه تعالى به إلا أنه سبحانه أوجب عليه صلى الله عليه وسلم كتمه لحكمة ويكون ذلك من خواصه عليه الصلاة والسلام، وليس عندي ما يفيد الجزم بذلك، هذا وخص سبحانه المكان في قوله تعالى: {وَمَا تَدْرى نَفْسٌ بأَىّ أَرْضٍ تَمُوتُ} ليعرف الزمان من باب أولى فإن الأول في وسع النفس في الجملة بخلاف الثاني، وأخرج أحمد وجماعة عن أبي غرة الهذلي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أراد الله تعالى قبض عبد بأرض جعل له إليها حاجة فلم ينته حتى يقدمها ثم قرأ عليه الصلاة والسلام وما تدري نفس بأي أرض تموت» وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف عن خيثمة أن ملك الموت مر على سليمان عليه السلام فجعل ينظر إلى رجل من جلسائه يديم النظر إليه فقال الرجل: من هذا؟ قال: ملك الموت فقال: كأنه يريدني فمر الريح أن تحملني وتلقيني بالهند ففعل فقال الملك: كان دوام نظري إليه تعجبًا منه إذ أمرت أن أقبض روحه بالهند وهو عندك.و{تَدْرى} في الموضعين معلقة فالجملة من قوله تعالى: {مَّاذَا تَكْسبُ} في موضع المفعول، ويجوز أن تكون {مَاذَا} كلها موصولًا منصوب المحل بتدري كأنه قيل: وما تدري نفس الشيء الذي تكسبه غدًا و{بأَىّ} متعلق بتموت والباء ظرفية، والجملة في موضع نصب بتدري.وقرأ غير واحد من السبعة {يُنَزّلٍ} من الإنزال، وقرأ موسى الإسواري وابن أبي عبلة {بئَايَةٍ أَرْضُ} بتاء التأنيث لإضافتها إلى المؤنث وهي لغة قليلة فيها كما أن كلًا إذا أضيفت إلى مؤنث قد تؤنث نادرًا فيقال: كلتهن فعلن ذلك فليعلم والله عز وجل أعلم {إنَّ الله عَليمٌ} مبالغ في العلم فلا يعزب عن علمه سبحانه شيء من الأشياء {خَبيرٌ} يعلم بواطنها كما يعلم ظواهرها فالجمع بين الوصفين للإشارة إلى التسوية بين علم الظاهر والباطن عنده عز وجل والجملة على ما قيل في موضع التعليل لعلمه سبحانه بما ذكر، وقيل: جواب سؤال نشأ من نفي دراية الأنفس ماذا تكسب غدًا وبأي أرض تموت كأنه قيل: فمن يعلم ذلك فقيل: إن الله عليم خبير وهو جواب بأن الله تعالى يعلم ذلك وزيادة، ولا يخفى أنه إذا كانت هذه الجملة من تتمة الجملتين اللتين قبلها كانت دلالة الكلام على انحصار العلم بالأمرين اللذين نفي العلم بهما عن كل نفس ظاهرة جدًا فتأمل ذاك والله عز وجل يتولى هداك. اهـ.
|